مع بدء إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تنفيذ خطته لمحاصرة الجمهورية الإسلامية الإيرانية عبر فرض حزمة من العقوبات المالية والاقتصادية والنفطية، بوشر بوضع القسم الأول منها موضع التطبيق قبل اسبوع من هذا الشهر، شكك بعض المحللين والمراقبين في قدرة واشنطن على تحقيق الأهداف التي تريدها من هذه العقوبات، انطلاقا من أن الادارات الأميركية السابقة قد فشلت على مدى العقود الماضية في إخضاع إيران عبر سياسة الحصار الاقتصادي. بل إن النتائج جاءت على عكس ما تشتهي، حيث نجحت طهران في تنمية قدراتها الاقتصادية الذاتية وبناء مشروعها النووي السلمي وامتلاك التقنية إلى جانب تطوير صناعاتها العسكرية وإنتاج منظومات صاروخية حديثة، الأمر الذي اجبر إدارة الرئيس الأميركي اوباما ومعه الإدارات الغربية على الدخول في مفاوضات شاقة مع إيران في إطار السداسية الدولية والتوصل إلى اتفاق تقبل فيه بحق إيران بالاحتفاظ ببرنامجها النووي للأغراض السلمية وهو ما كانت ترفض الموافقة عليه في السابق.
لكن البعض الآخر من المحللين والمراقبين يرى أن العقوبات اليوم مختلفة عن العقوبات السابقة، فهي تستهدف أي دولة أو شركة تخرق هذه العقوبات بإلحاق الضرر بمصالحها الاقتصادية والمالية، من خلال تحكم واشنطن بالتحويلات المالية بالدولار، وعدم قدرة أي بنك أو شركة مالية خرق هذا النظام المالي الخاضع لرقابة البنك الفدرالي الأميركي في نيويورك الذي تمر عبره كل العمليات المالية بالدولار. وهم يستشهدون بأن العديد من الشركات العالمية التي تعمل في إيران اضطرت إلى التوقف عن مواصلة عملها وفسخ عقود استثمارها تجنبا منها تعريض مصالحها الكبيرة في الولايات المتحدة للضرر أو للعقوبات.
والسؤال الذي يطرح هو:
هل ستتمكن واشنطن من فرض حصار محكم على إيران قادر على خلق مشاكل اقتصادية ومالية صعبة لها تفوق تلك التي واجهتها في الماضي، أم أن ذلك بات أكثر صعوبة من السابق، ذلك أن الجواب على هذا السؤال هو الذي يقرر مصير خطة إدارة ترامب فشلا أو نجاحاً؟.
إن التدقيق في الظروف والأوضاع التي كانت سائدة قبل توقيع الاتفاق النووي والتصديق عليه من مجلس الأمن الدولي، والظروف والأوضاع التي نشأت بعد التوقيع على الاتفاق، يتبين أن هناك خمسة أسباب تجعل إيران في وضع أفضل في مواجهة العقوبات الأميركية الجديدة، وتؤشر إلى أن مصير خطة ترامب إنما هو الفشل المحتوم في تحقيق اهدافها.
فما هي هذه الأسباب الخمسة:
السبب الأول: ان العقوبات اليوم تتم من قبل الولايات المتحدة الأميركية وليس كما كانت في السابق من قبل مجلس الأمن الدولي، ولهذا ليس لها نفس القدر من الالزام إلا بمدى تأثير أميركا على هذه الدولة أو تلك الشركة، وهذا يعني أن الكثير من الدول والشركات التي لا ترتبط بوشائج التبعية الاقتصادية والمالية للولايات المتحدة، لن تلتزم بهذه العقوبات، بل أن لها مصلحة بتعزيز علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع إيران، وهو ما عكسته مواقف كل من روسيا والصين والهند وغيرها من الدول المستقلة في العالم وتملك اقتصادات كبيرة ومؤثرة في الحركة الاقتصادية العالمية.
السبب الثاني: قرار الولايات المتحدة لا يحظى بأي تأييد دولي له وزنه، لاسيما من الدول الغربية الحليفة لها، بل على العكس فإن هذه الدول الغربية خصوصا الموقعة على الاتفاق النووي اعتبرت الموقف الأميركي انقلابا على الاتفاق النووي ويشكل سابقة خطرة في العلاقات الدولية يقلل من مكانة ودور أميركا، لاسيما وأن الاتفاق بات اتفاقا دوليا بعدما صادق عليه مجلس الأمن وبالتالي لا يحق لأي دولة نقضه إلا بموافقة مجلس الأمن، فيما لا ترى الدول الغربية موجبا لذلك بل أنها شددت على انه ليس هناك من بديل أفضل من الاتفاق خصوصا وأن إيران ملتزمة بتنفيذ بنوده.
السبب الثالث: إقدام الاتحاد الأوروبي على استصدار تشريع يوفر الحماية لكل الشركات الأوروبية التي تستثمر في إيران ويضمن لها مصالحها وعدم تضررها من أي عقوبات أميركية، وإعلان الدول الموقعة على الاتفاق التزامها تنفيذ كل ما يتوجب عليها من التزامات وبالتالي تقديم الضمانات لإيران بمواصلة استيراد النفط الإيراني والتحويلات المالية عبر البنك الأوروبي للاستثمار والبنك المركزي الإيراني، وهو ما شكل شرطا من قبل طهران لمواصلة الالتزام بالاتفاق النووي وعدم الانسحاب منه ردا على الانقلاب الأميركي على الاتفاق.
السبب الرابع: توقيع الدول الواقعة على بحر قزوين وهي روسيا وإيران أذربيجان وكازاخستان وتركمنستان على تقاسم استثمار ثرواته الهائلة من النفط والغاز والكافيار ومنع أي دولة أخرى من الدخول إلى هذا البحر، مما يشكل عاملا مهما يعزز موقف إيران في مواجهة الحصار الأميركي الاقتصادي والمالي. وضربة موجعة لخطة ترامب لعزل وحصار الجمهورية الإسلامية.
السبب الخامس: أن القرار الأميركي الانفرادي في فرض العقوبات على إيران يسهم في زيادة عزلة أميركا على المستوى الدولي كونه يأتي في لحظة تشن فيها إدارة ترامب حربا تجارية على معظم دول العالم من خلال رفع الرسوم الجمركية على صادراتها وفي مقدمة هذه الدول الصين وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي وتركيا والهند.. الخ وهذه الدول هي الدول الأكثر تأثيرا في حركة الاقتصاد العالمي وفي نجاح أو فشل العقوبات الأميركية على إيران.
لكل هذه الأسباب فإن إيران اليوم في وضع افضل في مواجهة العقوبات الأميركية الجديدة، فأميركا لم تعد تهيمن على القرار الدولي، والدول الحليفة لها باتت على خلاف عميق معها، وهذا الخلاف يزداد وهو ما يؤشر إليه تصاعد التوتر في العلاقات التركية الأميركية، والعلاقات الأوروبية الأميركية، على خلفية الحرب التجارية والضرر الذي لحق بهذه الدول من جراء ذلك مما يدفعها إلى الاقتراب اكثر من روسيا والصين، وهذا الوضع الدولي يصب في صالح إيران التي باتت هي أيضا أكثر قدرة على مواجهة العقوبات بعدما نجحت في بناء اقتصاد تنموي مستقل وتحقيق اكتفاء ذاتي وامتلاك مشروع نووي سلمي معترف به دوليا. أما ناحية التراجع الذي حصل في قيمة العملية الإيرانية عشية البدء في سريان العقوبات الأميركية فإنه لا يعود إلى أسباب اقتصادية بنيوية بقدر ما انه يعود إلى أسباب نفسية وثغرات داخلية أشار إليها المرشد الأعلى علي الخامنئي، من دون طبعا نفي أن يكون هناك تأثير للعقوبات لكن ليس بالحجم الكبير الذي يجري الترويج له بهدف خلق حالة من القلق والهلع وبالتالي إثارة الاضطراب كما حصل مع تراجع قيمة العملة مؤخرا قبل أن تتدخل الحكومة الإيرانية وتسيطر على السوق وتهدأ من قلق الناس.